إنَّ موضوع الاستشراق والمستشرقين مِن الموضوعات التي حصل بشأنها تلبيس كثير، وأُريدَ لها أنْ تُفهَم على غَيْر وجهها الصحيح، وصاحَبها - في بعض الأحيان - تضليل يُعمِي على الناس حقيقتها. وقد تَبنى أتباع المستشرقين وتلامذتهم في عالَمنا الإسلامي والعربي خَطَّ الإسراف والمغالاة في تقدير المستشرقين، وجعْلهم فوق مستوى المؤاخذة والشبهات، وحاولوا تضليل الناس وخداعهم بأنَّ الحركة الاستشراقية ما هي إلا حركة علمية بريئة من الأغراض والأهواء والتوجهات العدائية لعالم الإسلام، وأنها لا علاقة لها البتة بمؤازرة القوى المعادية للإسلام والمسلمين. ولهذا وغيره كانت هذه الدراسة، التي حاولتُ مِن خلالها أنْ أُجلي حقيقة الأمر في هذا الموضوع الخطير، مدللًا على كل قضية أسوقها أو رأي أذهب إليه، وقد أردتُ أنْ يَكون هذا البحث بمثابة مدخل إلى دراسة موضوع الاستشراق والمستشرقين، وبَيَّنْت فيه حقيقة الاستشراق ومفهومه، وألقيتُ الضوء على نشأته وتاريخه، ودوافعه ووسائله، ثم تَحَدَثتُ عن ملامح منهج البحث الاستشراقي في الدراسات الإسلامية، ثم ختمتُه بذِكْر نماذج مِن حملات المستشرقين ومفترياتهم على الإسلام، مقرونة بالرد عليها ونقْضها.
يُراد بالاستشراق اليوم: دراسة الغربيين للتاريخ الشرقي ولغاته، وآدابه وعلومه وعاداته ومعتقداته وأساطيره، ولكنه في العصور الوسيطة كان يُقصَد به دراسة العبرية لصلتها بالدين، ودراسة العربية لصلتها بالعلم. إذْ بينما كان الشرق - مِن أدناه إلى أقصاه - مغمورًا بما تُشعُّه منائر (بغداد ) و (القاهرة ) مِن أضواء المدنية والعلم؛ كان الغرب - مِن بَحْره إلى محيطه - يَعْمَه في غياهب مِن الجهل الكثيف، والبربرية الجموح. والسين والتاء إذا زیدتا في كلمة قُصِد بها الطلب، مثل قولنا: استَغَفَر، أي طَلَب الاستغفار. وعليه؛ فيكون الاستشراق - بالمفهوم العام - هو طَلَبْ علوم الشرق وآدابه، واستَشرق: يعني طَلَب وأراد تَعَلُّم ودراسة علوم الشرق وآدابه.
والمستشرقون هم قوم مِن غير الشرقيين، أو هم الغربيون الذين تخصصوا في دراسة الشرق من كافة جوانبه؛ علومه وتاريخه وأديانه ولغاته وآدابه وشعوبه؛ لأهداف مختلفة ودوافع شتَّی. يقول (مالك بن نبي ): "إننا نعني بالمستشرقين: الكُتَّاب الغربيين، الذين يَكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية "، ويقول (السباعي ): "لا يُعْرَف بالضبط مَن هو أول غربيّ عُنِي بالدراسات الشرقية، ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن المؤكَّد أنَّ بعض الرهبان قصدوا (الأندلس ) في إبان عظمتها ومجدها، وتثقّفوا في مدارسها وتَرجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم، وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات ". وبعد أنْ عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم، نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثُم أُسِّسَت المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة (بادو ) العربية، وأَخذت الأديرة والمدارس العربية تُدَرِّس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية، وهي لغة العلم في جميع بلاد (أوروبا ) يومئذ، وظلّت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب، وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون.
وإذا لَم تَكُن الآراء حول نشأة الاستشراق وبداية مسيرته متفِقة فيما بيْنها؛ فإنه يمكننا أنْ نقرر مطمئنين أنَّ ظهور الاستشراق لَم يتأخر عن القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري )؛ حيث كان النشاط العلمي للمسلمين في (الأندلس ) إبان فتْحهم لها مصدر ولادة الاستشراق وباعث انطلاقته.
لقد كان للحركة الاستشراقية دوافع شتى وأهداف عديدة، وخاصة ما يتعلق منها بالدراسات الإسلامية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مِن الباحثين مَن يُفرِط في الثناء على المستشرقين عند الحديث عن دوافعهم، ويَذهب إلى أنَّ الدافع العلمي النزيه كان وراء نشأة الاستشراق، وأنَّ الرغبة في خدمة العلم كانت الحافز الأعظم للدراسات الاستشراقية، بينما يُفرِط البعض في التحامل على المستشرقين؛ مجرِّدًا إياهم من كل هدفٍ نبيل، والحق أنَّ كلًّا مِن الثناء المطلق والتحامل المطلق، يتنافى مع الحقيقة التاريخية التي سجلها هؤلاء المستشرقون فيما قاموا به مِن أعمال، وما تطرقوا إليه مِن أبحاث، ونحن مِن قوم يأمرهم دينهم بالعدل حتى مع أعدائهم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ ".
لقد بَرَزَ الدافع الديني للاستشراق منذ بداياته الأولى، وقد تَمثّل هذا في دراسة الإسلام مِن منطلق أنه دِين معادٍ للنصرانية؛ فقد لَفَت أنظار النصارى - منذ قرون طويلة - سرعة انتشار الإسلام، وقدرته الفائقة على التوسّع والتغلّب على خصومه، وخاصة عندما نال الإسلام مِن الصليبية وانتَصر عليها في عقر دارها، وأقام حضارة ودولة في (الأندلس )، ثُم حينما اشتبكت الصليبية الغربية مع الإسلام في الشرق، في إطار ما عرف بـِ (الحروب الصليبية )، وما انتهى إليه الأمر بتراجعها منكسرة منهزمة تَجُرُّ أذيال الخيبة. كما بَرَزَ دافع دينيّ لدراسة الإسلام وهو: التعرف على المزيد عنه؛ بقصد عرض نقائصه المتوهَمة، والإكثار من الحديث عن مساوئه المزعومة؛ رغبة مِن الكنيسة في تشويه صورته أمام جموع النصارى في الغرب؛ حتى تنصرف هذه الجموع عن توجيه النقد لرجال الدِين ، ولكي ينصرف الغربيون كذلك عن التنبه لِما في دينهم من تحریفات وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان، وحماية الكنيسة من الأخطار التي تواجهها، وتزويد رجالها بمعلومات يُمْكن أن يوظفوها ويتحصنوا بها في مواجهة الإسلام .
وقد بَرَزَ الدافع الدينيّ للاستشراق أكثر ما بَرَز وتمثل في اتجاه خطير، ألا وهو (التبشير ) بالنصرانية؛ حيث رَغِب النصارى في تنصير المسلمين، والقيام بأعمال وأنشطة تبشيرية بينهم، وعَملوا على بذل كل ما في وسعهم لحمل المسلمين على تَرْك الإسلام، أو هَجْر تعاليمه، والتخلي عن اتخاذها منهج حياة لهم، ودستور يحكم جميع شئونهم.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان